مؤشرات جديدة تتوالى خلال العام الجاري لظاهرة باتت قديمة في المجتمع الياباني، جاء أحدثها في شهر أكتوبر الجاري، عندما تم الإعلان عن تراجُع سكان منطقة كوبي بمقاطعة هيوغو إلى أقل من مليون ونصف المليون نسمة لأول مرة منذ اثنين وعشرين عاماً. كما أُعلِنَ في الشهر السابق أن 10% من سكان اليابان باتت أعمارهم تزيد عن الثمانين عاماً للمرة الأولى.
هذه المؤشرات تثبت تفاقُم الظاهرة السكانية في اليابان، ولاسيما بعد أن أكدت إحصائيات صدرت في شهر يوليو 2023 أن تراجُع أعداد السكان قد طال كل المقاطعات اليابانية السبع والأربعين لأول مرة، والذي بَلَغَ رقماً غير مسبوق بحوالي 800 ألف نسمة منذ بداية العام الماضي 2022.
ولا يقف الأمر عند مجرد التراجع في عدد السكان، وإنما ما يعنيه ذلك في الظرف الراهن وفي المديين المتوسط والبعيد. وهنا تظهر أمور من قبيل تركيبة الهرم السكاني، والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية لذلك، ومن ثم تثار أسئلة كثيرة حول جدوى كل ما طُرِحَ من سياسات وما طُبِّق من برامج على مدار سنوات من أجل محاولة وقف استمرار هذا المنحنى أو حتى التقليل من درجة نزوله.
تراجُع متواصل في تعداد السكان
بحسب التقديرات التي قام بها "المركز الوطني الياباني للسكان والأمن الاجتماعي"، فإن إجمالي عدد سكان اليابان قد بلغ 124.56 مليون نسمة في أوائل شهر يوليو 2023. وقد كان هذا العدد بلغ 124.631 مليون نسمة في أوائل شهر فبراير من العام نفسه. وكان عدد المواليد في عام 2022 بلغ 772 ألف نسمة بانخفاض بلغ أكثر من 40 ألف نسمة عن عام 2021. أما عدد الوفيات فبلغ 1.5 مليون نسمة بزيادة بلغت أكثر من 123 ألفاً عن عام 2021. هذه التقديرات تؤكد التراجع غير المسبوق في عدد سكان اليابان في فترة قصيرة جداً، حيث أُضِيفَ لرقم العام السابق حوالي 180 ألفاً ليصل الإجمالي إلى 800 ألف في يوليو 2023.
وفي مقابل هذا التراجع في العدد الإجمالي للسكان برقم غير مسبوق، فإن أعداد الأجانب في اليابان بلغت رقماً غير مسبوق أيضاً، حيث وصل عددهم إلى حوالي 3 ملايين فرد، لتكون هذه الزيادة في عدد الأجانب هي الأولى خلال ثلاث سنوات، وهو ما يعزى إلى ظروف جائحة "كوفيد19" في تلك السنوات.
وبنظرة إلى الوراء عشر سنوات كاملة، ومن خلال أرقام نفس الجهة التي قامت بالتقديرات الأخيرة، يُلاحَظ أن عدد سكان اليابان في أول أكتوبر 2002 كان قد وصل إلى 127.4 مليون نسمة بزيادة طبيعية قدرها 195 ألفاً فقط؛ بينما بلغ العدد في الأول من أكتوبر 2022 حوالي 124.9 مليون نسمة بانخفاض بلغ حوالي 556 ألف نسمة مقارنة بالعام السابق.
واللافت للنظر أن هذا التراجع في العدد الإجمالي للسكان بات يشمل كل أرجاء اليابان، بما في ذلك الريف والحضر؛ ولهذا تَرسِم التوقعات صورة أشد قتامة للواقع السكاني في اليابان، فطبقاً لآخر التوقعات، سوف ينخفض عدد السكان بنسبة 30% في عام 2070، ما يعني أن إجمالي سكان اليابان سوف يكون حوالي 87 مليون نسمة فقط، بعدما كانت التوقعات قبل ذلك بخمس سنوات، أي في عام 2017، تشير إلى أن العدد سيكون في حدود 88 مليون نسمة في عام 2065.
ربما تكون التوقعات الجديدة أكثر تفاؤلاً بشكل محدود، وهذا يعود إلى عاملين أساسيين أولهما زيادة العُمْر المُتوقَّع، وثانيهما زيادة أعداد المهاجرين؛ أي أن الأمر ليس بعائد إلى تحسُن في معدل الخصوبة، والذي يُتوقَّع أن يواصل الانخفاض.. ويصبح السؤال الرئيسي هنا: لماذا يتراجع معدل الخصوبة في مجتمع رفاه كامل مثل المجتمع الياباني؟
إذا ما عُلِمَ أن معظم التراجعات في أعداد السكان على مستوى العالم هي بالأساس في دول متقدمة يتمتع مواطنوها بدخل مرتفع وخدمات صحية متميزة وغيرها من الميزات التي قد لا تتوافر في الكثير من دول العالم الأخرى، فإن ذلك قد يشير بأصابع الاتهام إلى مستوى الرفاهية كسبب رئيسي لهذا التراجع، فربما كان الخوف من تراجُع هذا المستوى في حال زاد العبء المالي مع وجود أطفال أكثر هو ما يدفع الناس إلى الاكتفاء بعدد أقل من الأطفال أو حتى عدم الإقدام على الإنجاب. لكن بالتأكيد فإن الأمر أكثر تعقيداً، ويرتبط بمتغيرات اجتماعية وثقافية وقيمية اقتحمت هذه المجتمعات على مدار سنوات مع إضافة العامل الاقتصادي.
ويُمكِن أن تُدرَج هنا عوامل أهم من قبيل تأخُر سن الزواج، بل وعدم التفكير في الزواج من أساسه؛ ومن ثم تراجُع قيمة الأسرة وأهمية وجودها، والتغير في نوعية الأسر لدرجة أن بعض المجتمعات باتت تَعترِف بما يُسمَّى (الأسرة ذات الفرد الواحد)؛ ثم تأتي بعد ذلك العوامل الاقتصادية، والتي ربما تكون هامشية في المجتمع الياباني، والذي لا يعاني من معدلات بطالة مرتفعة، كما أن نسب ادخار المواطنين فيه عالية، بما يعني وجود فوائض مالية لدى المواطنين. ويبقى أن الحياة نفسها تفقد معناها لدى الكثيرين في هذه المجتمعات، ومنها المجتمع الياباني، الذي يعاني من معدلات انتحار مرتفعة.
ارتفاع مستمر في معدلات الشيخوخة
بلغت معدلات الشيخوخة في المجتمع الياباني مستويات غير مسبوقة، إذ تكفي الإشارة إلى أن 32% من نساء اليابان أصبحن في الشريحة العمرية من 65 عاماً فأكثر، وتبلغ هذه النسبة لدى الرجال 26%. كما أن عدد السكان في الشريحة العمرية مَن 75 عاماً فأكثر قد تجاوز 20 مليون نسمة، وداخل هذه الشريحة الأخيرة، هناك حوالي 12.5% من إجمالي السكان في سن الثمانين عاماً فأكثر. أما من بلغوا 100 عام وتجاوزوها، فإن عددهم قد وصل إلى 90 ألف نسمة، منهم 80 ألف نسمة من الإناث.
ومرة أخرى تشير التوقعات إلى استمرار تزايُد نسبة شرائح كبار السن في المجتمع الياباني، فثمة تقديرات تذهب إلى أن نسبة مَن هم في سن 65 عاماً فأكثر سوف تقترب من حوالي 35% من إجمالي السكان. ويبدو ما ذكره البعض صحيحاً من أن القنبلة السكانية الحقيقية في بعض المجتمعات هي الشيخوخة، حيث يترتب على هذا الوضع الكثير من التداعيات، منها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو اقتصادي، بل ومنها ما هو استراتيجي، خاصة إذا ما وصل الأمر إلى حد التأثير في العناصر الرئيسية لقوة الدولة؛ فهذه الأعداد الكبيرة من كبار السن يضطر الكثير منها لمواصلة العمل حتى في سنٍ يُفترَض أنها سن التقاعد.
وفي المجتمع الياباني هناك الكثيرون يواصلون العمل بعد سن الـ65، وتقول الأرقام أيضاً إن حوالي 9 ملايين من كبار السن ما زالوا يعملون، بما يُمثِّل حوالي 13% من إجمالي قوة العمل اليابانية، لكن لا يجب إغفال أن نسبة كبيرة أيضاً، وبسبب الظروف الصحية، قد لا يمكنهم الاستمرار في العمل، كما أن نوعية الأعمال التي يُمكِن لكبار السن القيام بها لن تكون كتلك التي يقوم بها مَن هم في سن الشباب؛ أضف إلى ذلك اختلاف إنتاجية هذه الشريحة في حال قامت بالعمل، نظراً لأن الذين يتوقفون عن العمل في حاجة إلى رعاية صحية تتزايد أعباؤها مع تزايُد التقدم في العمر، مما يزيد العبء على مَنْ هم في سن العمل أو ما يُسمى بـ"مُعدَّل الإعالة". كما أن الحكومة مضطرة لتخصيص نفقات متزايدة من أجل تغطية متطلبات الضمان الاجتماعي، فقد أدى هذا الواقع السكاني في اليابان إلى ذهاب حوالي ثلث النفقات الحكومية إلى هذا البند.
هنا تجدر الإشارة إلى أن قوة العمل في اليابان (المواطنون الذين يقعون في الشريحة العمرية من 15 إلى 65 عاماً) كانت قد بلغت ذروتها في عام 1995 حينما وصلت إلى حوالي 87 مليون نسمة، لكنها تراجعت كثيراً في السنوات التالية بإجمالي 12 مليون نسمة منذ عام 2000 وحتى الآن.
السياسات والاستجابات
هذه التطورات السكانية السابقة لم تحدث فجأة، وكانت الحكومات المتوالية ترصدها، وتعمل على التعامل معها بوسائل كثيرة، من بينها تشكيل المجالس المختصة بهذا الأمر على أعلى المستويات، وتخصيص الموارد المالية اللازمة.
ومن ذلك على سبيل المثال إنشاء "هيئة التغلب على انخفاض السكان وتنشيط الاقتصاد المحلي" التي شكلها رئيس الوزراء الأسبق، شينزو آبي، والتي وضعت في اجتماعها الأول في سبتمبر 2014 أولويات حكومة آبي، في خَلْق مجتمعات محلية يتمكن الشباب من العمل فيها بهدوء وسكينة، وعدم الخوف من المستقبل، ومن ثم تكوين أسر وتربية أطفال؛ باعتبارها السبيل الوحيد للتغلب على مشكلة التراجع السكاني. وقد حدد آبي، بعض الخطوات الضرورية من قبيل عدم التعامل مع كل المجتمعات المحلية تعاملاً نمطياً، وإنما ضرورة مراعاة الاختلافات، واعداً بتنفيذ ما أسماه سياسة جريئة غير مسبوقة على هذا الصعيد.
وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على إنشاء هذه الآلية، وفي اجتماعها الحادي والعشرين الذي عقد في ديسمبر 2019، تمت مناقشة نتائج الرؤية طويلة المدى السابقة ومراجعتها، وكان من بين ما تضمنته المرحلة الثانية من تلك الرؤية مسألة التركز المفرط للسكان في منطقة طوكيو، وبالتالي تم إقرار تقديم دعم مالي لمن يتركون منطقة طوكيو ويبدؤون العمل في مناطق أخرى، سواءً عبر الحصول على وظائف جديدة أو فتح مشروعات تجارية.
وفي شهر مايو 2023 ناقشت الحكومة اليابانية حزمة جديدة من المساعدات المالية، تضمنت تسهيلات جديدة بالنسبة للفئات التي تُقدِّم لها المساعدات المالية عند إنجاب الأطفال، حيث تم اقتراح عدم وجود حد أقصى أو أدنى للدخل الذي على أساسه يُقدَّم الدعم المادي، أي أن يحصل الجميع على هذا الدعم بغض النظر عن مستويات دخولهم. وهناك آراء تطالب بدعم أكبر يُقدَّم للأسر الأقل دخلاً. كما تم الاتفاق على مد الدعم المادي المُقدَّم لكل طالب ليطال طلاب المرحلة الثانوية أيضاً، مع تقديم بدلات للآباء الذين ينقطعون ساعات أكثر عن العمل من أجل تربية أطفالهم؛ ولكن هذه الحزمة تحتاج إلى مصادر تمويل قد لا تكون الحكومة قادرة على تلبيتها كاملة، مما قد يؤخر تنفيذها على أرض الواقع.
من الواضح إذن أن هناك معضلة سكانية في اليابان تتزايد مع توالي الانخفاض في عدد السكان، وارتفاع معدلات الشيخوخة، وتراجُع قوة العمل. ومع كل مرة تَصدُر فيها إحصائيات وتقديرات سكانية جديدة تتزايد المطالب بسياسات جديدة للتعامل مع هذه المعضلة، وهو ما قد يفتح التساؤل حول إمكانية أن يكون من بين هذه السياسات التوسُع أكثر في فَتْح أبواب الهجرة، وهل سيتقبل المجتمع الياباني مثل هذه السياسات بسهولة؟، مع ملاحظة أن هذه المعضلة السكانية، بأبعادها المختلفة، لا تخص اليابان وحدها، ففي جوارها القريب تعاني كوريا الجنوبية من هذه المعضلة، وحتى في الصين بدأت تبرز مؤشرات على دخولها في منحنى الانخفاض السكاني أيضاً، وخارج النطاق الآسيوي هناك دول أخرى في أوروبا تعاني المعضلة ذاتها.